فصل: تفسير الآيات (1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الحجر:
أقول: تقدمت الأوجه في اقترانها بالسورة السابقة وإنما أُخرت عنها اقصرها بالنسبة إليها، وهذا القسم من سور القرآن للمئين، فناسب تقديم الأطول، مع مناسبة ما ختمت به لبراعة الختام، وهو قوله: {واعبُد ربَكَ حتى يأَتيكَ اليقين} فإنه مفسر بالموت، وذلك مقطع في غاية البراعة، وقد وقع ذلك في أواخر السور المقترنة ففي آخر آل عمران: {واتقوا اللَهَ لعلَكُم تُفلِحون} وفي آخر الطواسين: {كل شيء هالك إِلا وجهه أَلاله الحكم وإِليه تُرجَعون} وفي آخر ذوات {الر}: {وانتَظِر إِنَهُم مُنتَظرون} وفي آخر الحواميم {كأَنَهُم يومَ يرونَ ما يوعدونَ لم يلبثوا إِلا ساعة من نهار بلاغ} ثم ظهر لي وجه اتصال أول هذه السورة بآخر سورة إبراهيم، فإنه تعالى لما قال هناك في وصف يوم القيامة: {وبرزوا للهِ الواحدِ القَهّار وتَرى المجرمين يومئذٍ مقرنين في الأَصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار} قال هنا: {رُبما يود الذينَ كفروا لو كانوا مسلمين} فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار ورأوا عصاة المؤمنين الموحدين قد أخرجوا منها، تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين وذلك وجه حسن في الربط، مع اختتام آخر تلك بوصف الكتاب، وافتتاح هذه به، وذلك من تشابه الأطراف. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 3):

قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} الواحد الأحد الجامع لما شتت من بدد {الرحمن} الذي جمع خلقه في رحمة البيان {الرحيم} الذي خص الأبرار بما أباحهم الرضوان.
لما ختم التي قبلها بعنوان الكتاب، ابتدأ هذه بشرح ذلك العنوان، وأوله وصفه بأنه جامع والخير كله في الجمع والشر كله في الفرقة، فقال تعالى: {الر تلك} أي هذه الآيات العالية المقام، النفسية المرام {آيات الكتاب} أي الكامل غاية الكمال الذي لا كتاب على الحقيقة غيره، الجامع لجمع ما يقوم به الوجود من الخيرات، القاطع في قضائه من غير شك ولا تردد، الغالب بأحكامه القاهرة في وعده ووعيده وأحكامه في إعجازه لجميع من يعانده.
ولما كان الغالب في هذه السورة القطع الذي هو من لوازم الكتاب قدمه، وذلك أنه قطع بأمر الأجل والملائكة، وحفظ الكتاب والرمي بالشهب، وكفاية المستهزئين، فكان كما قال سبحانه {و} آيات {قرآن} أي قرآن جامع ناشر مفصل واصل، إذ التنوين للتعظيم {مبين} لجميع ما يجمع الهمم على الله فيوصل إلى السعادة، وهذه الإبانة- التي لم تدع لبسًا- هو متصف بها، مع كونه جامعًا للأصول ناشرًا للفروع لا خلل فيه يدخل منه عليه، ولا فصم يؤتى منه إليه، فأعجب لأمر حاوٍ لجميع وفرق وفصل ووصل: والإبانة: إظهار المعنى للنفس بما يميزه عن غيره، لأن أصل الإبانة الفصل: فهذا شرح كونه بلاغًا، فمقصود هذه السورة اعتقاد كون القرآن بلاغًا جامعًا للأمور الموصلة إلى الله، مغنيًا عن جميع الأسباب، فلا ينبغي الالتفات إلى شيء سواه {ذرهم يأكلوا}، {لا تمدن عينيك} {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وكان الجمع بين الوصفين الدال كل منهما على الجمع إشارة إلى الرد عليهم في جعلهم القرآن عضين، وأن قولهم شديد المباعدة لمعناه.
مع أن المفهومين- مع تصادقهما على شيء واحد- متغايران، فالكتاب: ما يدون في الطروس، والقرآن: ما يقرأ باللسان، فكأن الأول إشارة إلى حفظه في الطروس بالكتابة، والثاني إلى حفظه في الصدور بالدراسة، وسيأتي قوله: {وإنا له لحافظون} مؤيدًا لذلك، وكل من مادتي كتب وقرأ بجميع التقاليب تدور على الجمع.
أما كتب وتنقلب إلى كبت وتبك وبكت وبتك- فقال في المجمل: كتبت الكتاب أكتبه وهو من الجمع، والكتاب أيضًا: الدواة- تسمية للشيء باسم ما هو آلته، والمكتب- كمعظم: العنقود أكل بعض ما فيه- تشبيهًا له بالمكتوب، والكتيبة: الجيش والجماعة المستحيزة من الخيل إذا أغارت من المائة إلى الألف- انتهى.
وكتبت البغلة- إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة؛ وقال القزاز: وأصله- أي الكتاب- ضمك الشيء إلى الشيء، فكأنه سمي بذلك لضم الحروف بعضها إلى بعض، كتبت المزادة- إذا خرزتها، يعني: فضممت بعضها إلى بعض.
والكتبة- بالضم: السير يخرز به، وما يكتب به حياء الناقة لئلا ينزي عليها، والإكتاب: شد رأس القربة، والكتيبة: جماعة تكتبوا، أي تجمعوا، وتكتب الرجل- بتقديم الموحدة- إذا تقبض، ومنه الكتاب- بضم الكاف وتخفيف التاء الفوقانية لسهم صغير يتعلم به الصبيان الرمي- كذا قال القزاز إنه مخفف، وفي القاموس: وزنه كرمان- وزاد أنه مدور الرأس، وكتبت الناقة تكتيبًا: صررتها، واكتتب بطنه: أمسك، والمكتوتب: الممتلىء والمنتفخ؛ ويلزم الجمع القطع والغلبة التي هي من لوازم القدرة، فمن القطع: الكتاب بمعنى الفرض والحكم والقدر؛ والبتك: القطع ولذلك قيل للسيف: باتك، أي قاطع، ومن الغلبة والقدرة: الكتاب بمعنى القدر، قال ابن الأعرابي: والكاتب عندهم العالم، وقال القزاز: والكاتب: الحافظ، وهذان يرجعان أيضًا إلى نفس الجمع- لجمع الحافظ المحفوظ والعالم المعلوم؛ وكبت الله العدو- بتقديم الموحدة: صرفه ذليلًا، وهو من تكبت الرجل- إذا تقبض، وعبارة القزاز: كبت أعداءه: ردهم بغيظهم، أي فانقمعوا وانجمعوا عما كانوا انتشروا له، وكبت الرجل- إذا صرعه على وجهه، وبكته تبكيتًا- إذا أنبّه أو ضربه بعصى أو سيف ونحوهما، لما يلزمه من تصاغر نفسه وتقبضها.
وأما قرأ، مهموزًا- وينقلب إلى رقأ، وأرق، وأقر، وغير مهموز يائيًا وتراكيبه خمسة: قري، وقير، ورقي، وريق، وواويًا وتراكيبه ستة: قرو، وقور، ورقو، وروق، ووقر، وورق- فهو للجمع أيضًا، ويلزمه الإمساك، وربما كان عنه الانتشار، فمن الجمع: قرأت القرآن، أي تلوته فجعلت بعض حروفه وكلماته وآياته تاليًا لبعض متصلًا به مجموعًا معه، ويلزم القراءة النسك، ومنه القارىء والمتقرئ والقراء- كرمان.
أي الناسك، ويلزم عنه الفقه، ولذا قيل: تقرأ- إذا تفقه، وهو من الجمع نفسه أيضًا لأن الناسك جمع النسك إلى القراءة وانجمع همه، والفقيه جمع الفقه إليها؛ قال في المجمل: والقرآن من القرء وهو الجمع، أي وزنًا ومعنى، وفي القاموس: وقرأ عليه السلام: أبلغه كأقرأه، ولا يقال: أقرأه، إلا إذا كان السلام مكتوبًا؛ وقال الزبيدي في مختصر العين: وقرأت المرأة قرءًا، إذا رأت دمًا، وأقرأت- إذا حاضت فهي مقرئ- انتهى.
فكأنه عبر بذلك عند رؤية الدم لأنه لا يعرف أن المرأة جمعته إلا برؤيته، وهو من الانتشار الذي قد يلزم الجمع، أو يكون فعل هنا للإزالة، فمعناه: أزالت إمساك الدم كما أن هذا معنى أقرأت فإن فعل- لخفته وكثرة دوره- يتصرف في معاني جميع الأبواب، وقال في المجمل: وأقرأت المرأة: خرجت من طهر إلى حيض أو حيض إلى طهر، قلت: فالأول يكون فيه أفعل للإزالة، والثاني للدخول في الشيء كما تقول: اتهم الرجل وأنجد- إذا دخل في تهامة أو نجد، قال: والقرء: وقت يكون للطهر مرة وللحيض مرة، قلت: فالأول للجمع نفسه، والثاني لأنه دليل الجمع، قال: والجمع قروء، ويقال: {القروء} هو الطهر، وذلك أن المرأة الطاهرة كان الدم اجتمع وامتسك في بدنها فهو من: قريت الماء، وقرى الآكل الطعام في شدقه، وقد يختلف اللفظان فيهمز أحدهما ولا يهمز الآخر، والمعنى واحد إذا كان الأصل واحدًا، وقوم يذهبون إلى أن القرء: الحيض، وفي القاموس: والقرء- ويضم: الحيض والطهر ضد- وقد تقدم تخريج ذلك، والوقت- لأنه جامع لما فيه، والقافية- لأنها جامعة لشمل الأبيات، جمعه أقرؤ وقروء، وجمع الحيض أقراء، وكأن العلة في ذلك أنه لما كان جمع الكثرة هو الأصل في الجمع، لأن المراد بالجمع نفسه الكثرة، فكلما كان أكثر كان به أجدر، لمّا كان الأصل كذلك، وكان القرء بمعنى الطهر هو الأصل في مدلول الجمع، كان أحق بجمع الكثرة الذي هو أعرق في الجمع، ولما كان القرء بمعنى الحيض فرعًا، كان له جمع القلة الذي هو فرع في باب الجمع؛ وأقرأت: حاضت وطهرت، وأقرأت الرياح: هبت لوقتها- لأن هبوبها دال على اجتماعها كظهور دم الحيض، وقرأ الشيء: جمعه وضمه، والحامل: ولدت- لأن ظهور الولد هو المحقق لجمعها إياه في بطنها، وأقرأ: رجع ودنا وأخر واستأخر وغاب وانصرف وتنسك كتقرأ، بعضه للإيجاب وبعضه للسلب، والمقرأة- كمعظمة: التي ينتظر بها انقضاء أقرائها، وقد قرئت: حبست لذلك، وأقراء الشعر: أنواعه وانحاؤه- لأنها جامعة للأجزاء، والقرءة- بالكسر: الوباء- لجمعه الهم، واستقرأ الجمل الناقة: تاركها لينظر ألقحت أم لا- من التتبع والسبر، وهو بمعنى جمع الأدلة، وقرأت الناقة- إذا حملت، فهي قارىء، أي جمعت في بطنها ولدًا، وأقرأت- إذا استقر الماء في رحمها؛ ومن الإمساك: رقأ الدم والدمع رقوءًا- إذا انقطعا، قال أبو زيد: والرَّقوء- أي بالفتح: ما يوضع على الدم فيسكن، ورقأ بينهم: أصلح وأفسد، وفي الدرجة: صعد، وهي المرقاة وتكسر، ورقأ العرق: ارتفع- منه ما هو بمعنى الجمع ومنه ما هو بمعنى الانتشار والعلو الذي ربما لزماه، ومن الإمساك: الأرق، وهو السهر لأنه يمسك النوم، والإرقان: دود يكون في الزرع- فكأنه يوجب الهم الذي يكون عنه الأرق، ويمكن أن يكون من الانتشار الذي ربما يلزم الجمع، ويمكن أن يكون من الجمع نفسه، لأنه يجمع الهم- والله أعلم؛ وفي القاموس: والإرقان بالكسر: شجر أحمر، والحناء، والزعفران، ودم الأخوين- كأنه سبب للعكوف عليه بالاسترواح إليه، أو أنه يجمع بصبغه لونًا إلى لون، والإرقان أيضًا: آفة تصيب الزرع والناس كالأرقان محركة وبكسرتين وبفتح الهمزة وضم الراء، والأرق والأرقان- بفتحهما، والأراق- كغراب، واليرقان- محركة، وهذه أشهر داء يتغير منه لون البدن فاحشًا إلى صفرة أو سواد- كأن ذلك لمّا كان سبب الأرق كان هو الأرق البليغ، وزرع مأروق وميروق: مؤوف، والأقر- بضمتين: واد واسع مملوء حمضًا ومياهًا، وهو واضح في معنى الجمع، قد مضى من هذه المادة جملة في آخر سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى: {إلا رجالًا نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109]، وتأتي بقيتها إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله: {وفي آذانهم وقرًا} [الكهف: 57].
ولما وصف سبحانه هذا القرآن بما وصفه من العظمة والإبانة لجميع المقاصد التي منها سؤال الكفرة عند رؤية العذاب التأخير للطاعة في قوله تعالى: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} كان كأنه قيل: ما له لم يبين للكفرة سوء عاقبتهم بيانًا يردهم؟ فقال سبحانه باسطًا لقوله: {ولينذروا به} {ربما يود} أشار تعالى بكونه مضارعًا إلى أن ودهم لذلك يكون كثيرًا جدًا متكررًا، وإيلاءه لربما- وإنما يليها في الأغلب الماضي- معلم بأنه مقطوع به كما يقطع بالماضي الذي تحقق ووقع {الذين كفروا} أي ولو وقتًا ما والود: التمني وهو تقدير المعنى في النفس للاستمتاع، وإظهار ميل الطباع له إليه، وفيه اشتراك بين التمني والحب- قال الرماني، وهو هنا للتمني فإنه بين مودودهم بقوله: {لو كانوا} أي كونًا جبليًا {مسلمين} أي عريقين في وصف الإسلام من أول أمرهم إلى آخره؛ قال الرماني: والإسلام: إعطاء الشيء على حال سلامة كإسلام الثوب إلى من يقصره، وإسلام الصبي إلى من يعلمه، فالإسلام الذي هو الإيمان- إعطاء معنى الحق في الدين بالإقرار والعمل به- انتهى.
وقد كان ما أخبر الله به فقد ندم كل من أسلم من الصحابة على تأخير إسلامه لما علموا فضل الإسلام ورأوا فضائل السابقين- كما هو مذكور في السير وفتوح البلدان وسيكون ما شاء من ذلك في القيامة وما قبلها، فالمعنى أنكم إن كذبتم في القطع- في نحو قوله: {فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا} [إبراهيم: 44] بأنكم ترجعون عن هذا الشمم وتتبرؤون من هذه السجايا والهمم فتسألون الله تعالى في الطاعة، وقد فات الفوت بحلول حادث الموت إلى غيره، فلا أقل من أن يكون عندكم شك في الأمور التي يجوز كونها، ولا ينبغي حينئذ للعاقل ترك الاهتمام بالاستعداد على تقدير هذا الاحتمال، هذا- أعني التقليل- مدلول رب، وقال بعضهم: إنها قد ترد للتكثير، وقال الجمال ابن هشام في كتاب المغني: إنه أغلب أحوالها، واستدل بشواهد لا تدل عند التأمل.
ولا يصح قول من نسب إلى الكشاف ذلك، فإن كلامه مأخوذ من الزجاج، وعبارة الزجاج- كما نقلها الإمام جمال الدين محمد بن المكرم في كتابه لسان العرب ومن خطه نقلت: من قال: إن رب يعني بها التكثير فهو ضد ما تعرفه العرب، فإن قال قائل: فلم جازت في قوله: {ربما يود الذين كفروا} و{رب} للتقليل؟ فالجواب أن العرب خوطبت بما تعلمه في التهدد، والرجل يتهدد الرجل فيقول: لعلك ستندم على فعلك؟ وهو لا يشك أنه يندم، ويقول: ربما ندم الإنسان على ما صنعت، وهو يعلم أن الإنسان يندم كثيرًا، ولكن مجازه أن هذا لو كان مما يود في حال واحدة من أحوال العذاب، أو كان الإنسان يخاف أن يندم على الشيء لوجب عليه اجتنابه، والدليل عل أنه معنى التهدد قوله تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} انتهى.
فقد علم من هذا أنهم يطلقونها بمعنى القلة فيما يعلمون أنه كثير إرخاء للعنان وتنبيهًا على وجوب الأخذ بالأحوط، وذلك واقع في التهديد، وفرق كبير بين ما يعلم أنه كثير من أمر خارج عن العبارة المخبر بها عنه وبين ما تعرف كثرته من تلك العبارة، وزيدت ما فيها تأكيدًا من حيث إنها تفهم أن الأمر لا يكون إلا كذلك، ولتهيئتها لمجيء الفعل بعدها؛ قال الإمام أبو حيان: والظاهر أن ما في رب، مهيئة، وذلك أنها من حيث هي حرف جر- على خلاف فيه- لا يليها إلا الأسماء، فجيء بها مهيئة لمجيء الفعل بعدها، وعلى كثرة مجيء رب في كلام العرب لم تجىء في القرآن إلا في هذا الموضع- انتهى.
ودخلت هاهنا على المضارع- وهي للماضي- لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان، أو لأن {ما} إذا لحقتها سوغت دخولها على المستقبل كما تدخل على المعرفة- قال الرماني.
ولما طرق لهم سبحانه الاحتمال، كان كأنه قيل: هل جوزوه فأخذوا في الاستعداد له؟ فقيل: بل استمروا على عنادهم، فقال- مستأنفًا ملتفتًا إلى ما أشار إليه في أول سورة ابراهيم في قوله: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} [إبراهيم: 3]. من المانع لهم عن الإذعان-: {ذرهم} يا أعز الخلق عندنا! كالبهائم {يأكلوا ويتمتعوا} والتمتع: التلذذ، وهو طلب اللذة حالًا بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالًا بعد حال {ويلههم} أي يشغلهم عن أخذ حظهم من السعادة {الأمل} أي رجاءهم طول العمر وبلوغ ما يقدره الوهم من الملاذ من غير سبب مهيىء لذلك ولما كان هذا امرًا لا يشتغل به إلا أحمق، سبب عنه التهديد بقوله: {فسوف يعلمون} أي ما يحل بهم بعد ما فسحنا لهم من زمن التمتع.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة ابراهيم من لدن قوله سبحانه {ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون} [إبراهيم: 42]. إلى خاتمتها، أعقب ذلك بقوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} أي عند مشاهدة تلك الأحوال الجلائل، ثم قال تعالى تأكيدًا لذلك الوعيد: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} ثم أعقب تعالى: هذا ببيان ما جعله سنة في عباده من ارتباط الثواب والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان، لا انفكاك لها عنها ولا تقدم ولا تأخر، إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته لا يفوته أحد منهم ولا يعجزه، وقال تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} وكان هذا يزيد إيضاحًا قوله عز وجل: {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم: 42]، وقوله: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} وقوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض} [إبراهيم: 48]. الآية؛ وتأمل نزول قوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} على هذا وعظيم موقعه في اتصاله به ووضوح ذلك كله، وأما افتتاح السورة بقوله: {الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} فإحالة على أمرين واضحين: أحدهما ما نبه به سبحانه من الدلائل والآيات كما يفسر، والثاني ما بينه القرآن المجيد وأوضحه وانطوى عليه من الدلائل والغيوب والوعد والوعيد وتصديق بعض ذلك بعضًا، فكيف لا يكون المتوعد به في قوة الواقع المشاهد، لشدة البيان في صحة الوقوع فالعجب من التوقف والتكذيب! ثم أعقب هذا بقوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} انتهى. اهـ.